فلما نزل القرآن يذكر سليمان في الأنبياء أنكرت اليهود ذلك وقالوا ألا تعجبون لمحمد يزعم أن ابن داود كان نبياً ؟ والله ما كان إلا ساحراً ، فنزلت هذه الآية .
والأثر أخرجه الطبري وغيره عن السُدى ومن طريق سعيد بن جبير نحوه بسند صحيح ومن طريق عمران بن الحارث عن ابن عباس موصولاٍ بمعناه .
وأما ما ذكره أهل الأخبار ونقله المفسرون في قصة هاروت وماروت وما روى عن علي وابن عباس وغيرهما فهذا كله من كذب اليهود وافترائهم وبم يُنقل في هذا خبرُ صحيحُ عن رسول الله .
يقول الحافظ ابن كثير:
والأحاديث والآثار الواردة في قصة هاروت وماروت حاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل فيها حديثُ مرفوع صحيحُ متصلُ الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى .
وظاهر سياق القرآن هو إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى والله أعلم بحقيقة الحال .
وأما تعليمُ الملكين السحرَ للناس بصريح النص القرآني فهذا من باب الفتنة والاختبار والابتلاء .
ولله أن يختبر عباده بما يشاء وقد خلق الله إبليس الذي هو أصلُ الشر كله ونهى العباد عن متابعته وحذر منه واختبر جيش طالوت بعدم الشرب من النهر والملكان ليسا بعاصيينّ لله في حال تعليمهما السحر للناس بل هما مطيعان لله ، وذلك أنهما مكلفان بهذا من الله تعالى ابتلاءً واختباراً من الله لعباده .
والخلاصة أن الآية قد دلت على أن السحر كفر وأن الساحر كافر وهذا بلا خوف متعلق بالسحر الحقيقي الذي يعتمد فيه الساحر على الكفر بالله العظيم والاستعانة بعبادة الجن والشياطين والنجوم والكواكب وكلما ازداد الساحر كفراً أو شركاً ازداد الجني والشيطان له طاعة .
ويقول حافظ حكمي في المعرج :
وقد عُلم أن السحر لا يُعمل إلا مع كفر بالله وهذا معلوم من سبب نزول الآية .
ويقول الإمام النووي رحمه الله تعالى :
عملُ السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع وقد عدَّه النبي من السبع الموبقات ومنه ما يكون كفراً ومنه ما لا يكون كفراً بل
معصية كبيرة فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا .
وقال القرطبي : قال أهل الصناعة إن السحر لا يتم إلا مع الكفر والشرك أو التعظيم للشيطان فالسحر إذن دال على الكفر على هذا التقدير .
وقال صاحب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد :(( لما كان السحر من أنواع الشرك إذ لا يتأتى السحر بدون الشرك أدخله المصنف في كتاب التوحيد ليبين ذلك تحذيراً ) ، كما ذكر غيره من أنواع الشرك .
وقال ابن عابدين :
ولعل ما نُقل عن الأصحاب أي القول بكفر الساحر مبني على أن السحر لا يتم إلا بما هو كفر كما يفيده قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}
ومن ثم كان حدَّ الساحر في الإسلام هو القتل .
وفي سنن أبي داود عن بجالة بن عَبَدَه قال :
كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة
.
بجالة بن عبدة هو التميمي العنبري تابعي ثقة .
(( حد الساحر ضربه بالسيف )) فهو حديث ضعيف
وبهذا القول قال مالك وأحمد وأبو حنيفة وقال من الصحابة عمرو ثمان وابن عمر وحفصه وغيرهم .
ولم ير الشافعي القتل للساحر بمجرد السحر إلا من عمل سحره ما يبلغ الكفر وهو رواية عن أحمد بن حنبل أيضاً . وقد يسأل الآن سائل ويقول فلماذا لم يقتل النبي r لبيد بن الأعصم الذي سحره والجواب أن النبي r كان بينه وبين يهود عهدُّ فلو قتله لنقضيه مع كل ما أظهروه من كيد للمسلمين وطعن فيهم وفي دينهم حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ومن المعلوم أن لبيد بن الأعصم كان حليفاً ليهود وكان مناقضاً كما ثبت في الرواية
الصحيحة في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أما حكمُ ساحرِ أهل الكتاب فقد ذهب جمهور أهل العلم إلى عدم قتل ساحر أهل الكتاب إلا إذا قتل بسحره .
أما الإمام أبو حنيفة فقد قال بوجوب قتل ساحر أهل الكتاب ولم يفرق بينه وبين الساحر المسلم .
وخالف أبو حنيفة الأئمة الثلاثة : أيضاً في حكم المرأة الساحرة بأنها لا تقتل ، أما هم فقالوا بوجوب قتلها ولم يفرقوا بين الرجل والمرأة لعدم وجود الدليل الذي يفرق بينهما .
وقد اختلف العلماء في توبة الساحر هل تقبل أو لا تقبل ؟!
والصحيح إن شاء الله تعالى أنه لم يسد باب التوبة على أحد من خلقه على الإطلاق بل أن المشرك لو تاب تاب الله عليه .
وقد أخبرنا القرآن أن سحرة فرعون كفروا بالله عز وجل وتابوا إلى الله وقبل توبتهم .
أحبتي في الله :
هذا عن حكم السحر وحدِّ الساحر .
فماذا عن حكم من يذهبُ إلى السحرة والعرافين والكهان :
والجواب من رسول الله r ففي صحيح مسلم من حديث حفصه رضي الله عنها أن النبي r قال: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء ( وفي لفظ أحمد ) فصدقه بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يوم
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبيهقي والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي وصححه شيخنا الألباني في الإرواء من حديث أبي هريرة أن النبي r قال: ((من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )).
قال صاحب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد : وظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدق العراف أو الكاهن بأي وجه كان .
وفي الحديث الذي رواه البزار بإسناد جيد كما قال الحافظ في الفتح ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن وهذا لفظ رواية البزار عن عمران بن حصين أن النبي r قال :
(( ليس منا من تطيّر أو تطيّر له أو تكهن أو تُكُهِّن له أو تسحر أو سُحر له ومن أنى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )).
قال صاحب فتح المجيد : قوله : ليس منا ( فيه : وعيد شديد يدل على أن هذه الأمور من الكبائر.
فمن هو العراف ومن هو الكاهن ؟
قال البغوي : العراف هو الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : إن العراف اسمُ للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق .
وقال الإمام أحمد :العرافة طَرف من السحر والساحر .
وقال أبو السعادات : العراف هو المنجم .
أما الكاهن فهو الذي يَّدعي علم الغيب .